سريعًا، انتهى "شهر العسل" بين كلّ من رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ ورئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​، لتعود الأمور بين "حليفي الحليف" إلى سابق عهدها من الاشتباك السياسي الذي ينذر بعواقب وخيمة على أكثر من مستوى، وهو ما بدأت تباشيره بالظهور من خلال التراشق الكلامي الذي دار بين الرجلين عبر الاعلام خلال اليومين الماضيين.

وإذا كان الحليف التقليديّ المشترك للرجلين، أي "​حزب الله​"، هو من أول المتضرّرين من حماوة مثل هذا الاشتباك، وهو الذي سعى سابقًا ولا يزال لتثبيت "هدنة دائمة" بينهما، فإنّ المفارقة أنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ يتجرّع اليوم نفس كأس الحزب المُرّة، هو الذي لا يريد المخاطرة بعلاقته مع عون، ولا التفريط بعلاقته مع بري، وبات يشعر أنّ كلّ "مكاسب" أزمة استقالته تكاد تنهار بفعل "الطلاق المفاجئ"...

أين "حزب الله"؟

ليست المرّة الأولى التي يجد فيها "حزب الله" نفسه عالقًا بين "حليفيه" العاجزين عن ممارسة الحدّ الأدنى من "ضبط النفس" فيما بينهما، أي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة، بعدما أثبتت كلّ التجارب أنّ لا كيمياء بينهما أصلاً، وهما يفترقان أكثر بكثير ممّا يتّفقان، على رغم أنّ "محنة" رئيس الحكومة سعد الحريري الأخيرة مثلاً أظهرتهما في خندقٍ واحدٍ من التعاون والانسجام غير المسبوقين، الأمر الذي لا يمكن رصده في العادة.

وإذا كان "حزب الله" لاذ بالصمت إزاء الأزمة المستجدّة بين حليفيه، فإنّ هذا الأمر ليس بجديدٍ عليه، حيث أنّه دأب على اعتماده في كلّ مراحل الأزمات والتجاذبات السابقة بين "الوطني الحر" و"​حركة أمل​"، توازياً مع تحريك الوساطات لتقريب وجهات النظر فيما بينهما متى وجد الأمر مناسبًا لذلك، وقد نجح الحزب في أكثر من مرة في تكريس "هدنة" ولو شكليّة بينهما، ولو تحت عنوان "مراعاة خواطره" ليس إلا، هدنة سرعان ما كانت تنفجر في أكثر من محطة، لعلّ أبرزها محطة الانتخابات النيابية في جزين التي تنافس فيها الجانبان "حبيًا"، ولكن بحماوةٍ جعلت من المعركة بينهما "أمّ المعارك" بجدارة.

وعلى الرغم من أنّ العديد من المعطيات تشير إلى أنّ "حزب الله" يجد نفسه في هذه الأزمة أقرب إلى بري من عون، على اعتبار أنّ المرسوم الذي يصرّ عليه الأخير شكّل في مكانٍ ما تحدّيًا لبري، على الأقل من منظار الأخير، فضلاً عن كونه يكرّس سابقة بحجب توقيع وزير المال، بمُعزَلٍ عن قانونيّة الأمر، فإنّ المؤشرات تدلّ على أنّه لن يخرق الصمت، خصوصًا أنّه لم يكن يرغب بوصول الأمور إلى هذا الحدّ من التراشق بينهما، وعبر الإعلام بالتحديد، وهو يعتبر أنّ بالإمكان الوصول إلى حلولٍ وسطيّة ترضي الطرفين في آنٍ واحدٍ، من دون أن تُظهِر أيًا منهما منكسرًا أمام الآخر.

الحريري مُحرَج...

قد يكون موقف "حزب الله" صعبًا، هو الذي يتمسّك بتحالفه المتين مع "​التيار الوطني الحر​" بقدر ما يتمسّك بتحالفه الاستراتيجي مع "حركة أمل"، ويرفض أن تؤثّر التباينات شبه الدائمة بينهما على علاقته بأيّ منهما، إلا أنّ الحزب بات معتادًا بشكلٍ أو بآخر على هذه التجاذبات، وبات يعرف كيف يضبطها تارةً ويتأقلم معها تارةً أخرى، بما يحفظ ماء وجهه من جهة، ويقيه شرّ أيّ انزلاقٍ قد يحدث من جهة ثانية.

ولكن، وبخلاف الحزب الذي يتفادى الإحراج، يبدو رئيس الحكومة سعد الحريري في قمّة الإحراج، وهو يتجرّع الكأس المرّة التي اعتاد عليها الحزب، وخير دليلٍ على ذلك أنّه وقّع على "المرسوم-اللغم" ثمّ طلب عدم نشره، عندما تحسّس ردّة الفعل الغاضبة من قبل رئيس المجلس النيابي، والتي لم يكن قد حسب لها حساباً. ولعلّ ما يزيد من صعوبة موقف بري أنّه غير قادر على التراجع عن توقيعه خشية غضب رئيس الجمهورية، في وقتٍ يلومه رئيس المجلس على موقفه، ويزيد الطين بلّة بتذكيره بأنّ وزير المال في حكومة والده رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​ كان من أبطل مرسومًا مشابهًا، في وقتٍ هو وافق على التخلّي عن دور وزير المال.

وفي الحالتين، يشعر الحريري أنّه المتضرّر الأكبر من الأزمة غير المحسوبة، هو الذي بدأ يراكم المكاسب التي حقّقها منذ عودته إلى ​بيروت​، للبناء عليها في الانتخابات المقبلة، بل إنّه ضحّى بعلاقاته القديمة في سبيل "الشراكة" بالتحديد مع عون وبري، بدليل التوتر الحاصل مع "القوات اللبنانية"، التي لا يزال لقاء الحريري مع رئيسها ​سمير جعجع​ بحكم "المؤجَّل"، مع ما لهذا التأجيل من معانٍ ودلالات. ولعلّ خشية الحريري الأكبر تكمن في أن تخلط هذه الأزمة الأوراق السياسية وبالتالي الانتخابيّة، الأمر الذي يمكن أن يطيح بالتحالفات ويدفعه تلقائيًا لتنازلاتٍ قد تكون أثمانها باهظة على الجميع.

تقاطع مصالح...

مجدّدًا، هو تقاطع المصالح بين "​تيار المستقبل​" و"حزب الله"، رغم كلّ التباينات. فبين تحالفٍ خماسيّ لا يبدو أنّه سيبصر النور، بصيغته المتداولة، منعًا لأيّ تأويلات للمساكنة بين الجانبين، وبين نظرية "حليف الحليف" التي تكاد تنطبق عليهما لجهة علاقتهما بـ"التيار الوطني الحر"، لا تبدو الأزمة المستجدّة بين كلّ من عون وبري لصالح أيّ منهما.

"حزب الله" لا يريد للخلاف بين عون وبري أن يتفاقم نظرًا لانعكاساته السلبية عليه، عشية انتخاباتٍ يسعى أن يحقق معهما ومع غيرهما من الحلفاء انتصاراً يستطيع توصيفه بالكاسح، و"المستقبل" لا يريد للخلاف أن يستمرّ، لأنّ رئيسه مُحرَج بينهما، ويحتاج إليهما إلى جانبه في المرحلة المقبلة، بعدما اقتنع أنّ تحالفاً مشتركاً وحده يمكن أن يقلّص من خسائره الانتخابيّة. فهل ينسّق الخصمان، ولو من تحت الطاولة، لحماية تحالفٍ يبدو حتى إشعارٍ آخر عصيًا على الولادة؟!